صفات أهل السنة والجماعة
"صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة"
الحمد لله الذي أظهر الحق وأوضحه، وكشف عن سبيله وبينه، وهدى من شاء من خلقه إلى طريقه وشرح به صدره، وأنجاه من الضلالة حين أشفا عليها فحفظه، وعصمه من الفتنة في دينه فأنقذه من مهاوي الهلكة، وأقامه على سنن الهدى وثبته، وآتاه اليقين في اتباع رسوله وصحابته ووفقه، وحرس قلبه من وساوس البدعة وأيده، وأضل من أراد منهم وبعده، وجعل على قلبه غشاوة، وأهمله في غمرته ساهياً، وفي ضلالته لاهياً، ونزع من صدره الإيمان، وابتز منه الإسلام، وتيهه في أودية الحيرة، وختم على سمعه وبصره ليبلغ الكتاب فيه أجله، ويتحقق القول عليه بما سبق من علمه فيه من قبل خلقه له وتكوينه إياه ليعلم عباده أن إليه الدفع والمنع وبيده الضر والنفع من غير غرض له فيه، ولا حاجة به إليه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، إذ لم يطلع على غيبه أحدا ولا جعل السبيل إلى علمه في خلقه أبدا، لا المحسن استحق الجزاء منه بوسيلة سبقت منه إليه، ولا الكافر كان له جرم أو جريرة حين قضى وقدر النار عليه؛ فمن أراد أن يجعله لإحدى المنزلتين ألهمه إياها، وجعل موارده ومصادره نحوها، ومتقلبه ومنقلبه ومتصرفاته فيها، وكده وجهده ونصبه عليها ليتحقق وعده المحتوم، وكتابه المختوم، وغيبه المكتوم، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق من ربهم والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده الذي لا شريك له يحيي ويميت، وينشئ ويقيت، ويبدىء ويعيد، شهادة مقر بعبوديته، ومذعن بألوهيته، ومتبريء عن الحول والقوة إلا به.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه إلى الخلق كافة، وأمره أن يدعو الناس عامة لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين1، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أزكى صلاة وأكملها، وأشرفها وأوفاها.
أما بعد:
فقد خلق الله البشرية أول ما خلقها مؤمنة بربها، موحدة له، قال الله -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} سورة البقرة (213).
وقال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم)2.
وآمن مع كل رسول أفضل أهل عصره، وخير أتباعه، وحملوا هذا الدين ليبلغوه، وبذلوا ما استطاعوا لنصرته وتأييده.
ثم حدث لكل أمة انحراف وضلال عن نهج رسولهم، فاختلف الأتباع، وتعددت مذاهبهم، وزاغ أكثرهم عن طريق الحق طريق الأنبياء والرسل. وكان من الصعب إعادة تلك الأمم وجمع تلك الطوائف على كلمة الحق الواحدة، للتحريف الذي وقع في كتبهم، والتغيير الذي أُحدث في أديانهم، فلم يبقَ لديهم أصل سالم من العبث يرجعون إليه، ولا قانون محكم يتحاكمون إليه، فاتسعت الهوة، وعظمت الشقة، فلم يزدادوا إلا انحرافاً، وأنَّى لمن فقد الأصل الصحيح أن يعود إلى الحق؟!.
وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن افتراق هذه الأمة، فقال: (افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)3. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)4.
وهذه هي الجماعة المنصورة التي أخبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس).5 وقوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).6
وهذه الطائفة لها أوصاف وسمات، تنزَّل بها الكتاب، ونطقت بها السنة، وأُسُّ هذه السمات وركنها هو الاعتقاد الصحيح في الله، وما يجب له في أسمائه وصفاته، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما أعده لعباده المؤمنين من نعيم، وما توعد به الكافرين من عذاب مقيم، والإيمان بما قضى الله وقدر، من خير أو شر، حلوه ومره من الله وحده: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} سورة القمر (49). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (.. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)7. وفي رواية: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)؛ وهذه هي أولى صفات الأبرار؛ قال -تعالى-: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ والْمَلائِكَةِ والْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ} سورة البقرة (177).
وهذه الصفة لا تتحقق إلا بسلوك منهج الصحابة في الإيمان: إيمان بلا شك، وقبول بلا تردد، وتسليم بلا كراهة، وإذعان للأمر، واجتناب للنهي. هذه هي الصفة التي إذا استقامت وصحت استقامت بقية الصفات، وباقي السمات والأوصاف فروع منها، ومبنية عليها.
والكتاب والسنة قد بينا صفات هذه الطائفة، وأوضحا سماتها في مواضع كثيرة؛ منها قوله -تعالى-: {والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}8. سورة التوبة(71).
وقال الأوزاعي -رحمه الله- : "خمس كان عليها أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله"9.
وقال العلامة حافظ حكمي-رحمه الله- عن أهل السنة والجماعة: "وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة الذين لم تزل قلوبهم على الحق متفقة مؤتلفة، وأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم على الوحي لا مفترقة ولا مختلفة، فانتدبوا لنصرة الدين دعوة وجهاداً، وقاوموا أعداءه جماعات وفرادى، ولم يخشوا في الله لومة لائم، ولم يبالوا بعداوة من عادى، فقهروا البدع المضلة، وشردوا بأهلها، واجتثوا شجرة الإلحاد بمعاول السنة من أصلها، فبهتوهم بالبراهين القطعية في المحافل العديدة، وصنفوا في رد شبههم، ودفع باطلهم، وإدحاض حججهم الكتب المفيدة، فمنهم المتقصي للرد على الطوائف بأسرها، ومنهم المخلص لعقائد السلف الصالح من غيرها ولم تنجم بدعة من المضلين الملحدين إلا ويقيض الله لها جيشاً من عباده المخلصين، فحفظ الله بهم دينه على العباد، وأخرجهم بهم من ظلمات الزيغ والضلالة إلى نور الهدى والرشاد، وذلك مصداق وعد الله -عز وجل- بحفظه الذكر الذي أنزله؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر(9)؛ وإعلاء لكلمته وتأييدا لحزبه إذ يقول: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}"10؛ سورة الصافات(173).
وإليك -أخي المؤمن- ذكر صفات أهل السنة والجماعة "الفرقة الناجية والطائفة المنصورة" إجمالاً حتى تعلم من هو على السنة ومن ليس عليها، وحتى تعمل بهذه الصفات لتكون من الفرقة الناجية والطائفة المنصورة -إن شاء الله-.
فمن أهم الصفات التي تميز بها أهل السنة والجماعة"الفرقة الناجية والطائفة المنصورة" على سبيل الإجمال لا التفصيل ما يلي:
أولاً: الاهتمام بكتاب الله؛ حفظاً وتلاوة وتفسيراً، والاهتمام بالحديث، معرفة وفهماً وتمييزاً لصحيحه من سقيمه "لأنهما مصدر التلقي" مع اتباع العلم بالعمل.
ثانياً: الدخول في الدين كله، والإيمان بالكتاب كله، فيؤمنون بنصوص الوعد ونصوص الوعيد، وبنصوص الإثبات للصفات، ونصوص التنزيه، ويجمعون بين الإيمان بقدر الله، وإثبات إرادة العبد ومشيئته وفعله، كما يجمعون بين العلم والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين العمل بالأسباب والزهد.
ثانياً: الاتباع وترك الابتداع، والاجتماع ونبذ الفرقة، والاختلاف في الدين.
رابعاً: الاقتداء والاهتداء بأئمة الهدى العدول، المقتدى بهم في العلم والعلم والدعوة-الصحابة ومن سار على نهجهم- ومجانبة من خالف سبيلهم.
خامساً: التوسط: فهم في الاعتقاد وسط بين فرق الغلو وفرق التفريط، وهم في الأعمال والسلوك وسط بين المفرِطين والمفرَّطين.
سادساً: الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق، وتوحيد صفوفهم على التوحيد والاتباع، وإبعاد كل أسباب النزاع والخلاف بينهم.
ومن هنا لا يتميزون على الأمة في أصول الدين باسم سوى السنة والجماعة، ولا يوالون ولا يعادون على رابطة سوى الإسلام والسنة.
سابعاً: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، وإحياء السنة، والعمل لتجديد الدين، بإحياء السنن، ونفي البدع والمحدثات، وإقامة شرع الله وحكمه في كل صغيرة وكبيرة.
ثامناً: الإنصاف والعدل؛ فهم يراعون حق الله -تعالى- لا حق النفس أو الطائفة، ولهذا لا يغالون في مُوالِ، ولا يجورون على معاد، ولا يغمطون ذا فضل فضله أيا كان.
تاسعاً: التوافق في الأفهام، والتشابه في المواقف رغم تباعد الأقطار والأعصار، وهذا من ثمرات وحدة المصدر والتلقي.
عاشراً: الإحسان والرحمة وحسن الخلق مع الناس كافة.
الحادي عشر: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
الثاني عشر: الاهتمام بأمور المسلمين ونصرتهم، وأداء حقوقهم، وكف الأذى عنهم11.
ولولا ضيق المقام لسردنا الأدلة على هذه الصفات من كتاب الله ومن سنة رسول الله، ومن كلام أهل العلم، والله نسأل أن يجعلنا من الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة(1/7- 9). للإمام اللالكائي. الناشر: دار طيبة - الرياض (1402هـ). تحقيق: د. أحمد سعد حمدان.
2 أخرجه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي.
3 رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (1083)
4 أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأحمد والحاكم، وقال الألباني : "حسن صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(51).
5 رواه الشيخان وأحمد.
6 رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن ثوبان.
7 رواه أحمد والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وقال الألباني في تعليقه على: "مشكاة المصابيح"، رقم(5302).
8 راجع: مجلة البيان، العدد (47) صــ(*12).
9 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/64). للإمام اللالكائي. الناشر: دار طيبة - الرياض (1402هـ).
10 انظر: معارج القبول(1/62) حافظ حكمي. الناشر : دار ابن القيم – الدمام. الطبعة الأولى (1410 هـ).
11 انظر: مجمل أصول أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل.
----------------------------