الحمد لله، المتفرِّد باسمه الأسمى، المختصّ بالملك الأعزّ الأحمى، الذي وَسِعَ كل شيءٍ رحمة وعلماً، وأسبغ على أوليائه نعماً، وبعث فيهم رسولاَ من أنفسهم أزكاهم محتداً ومَنمى وأرجحهم عقلاً وحِلْمًا، وأوفرهم علماً وفهمًا، وأقواهم يقيناً وعزمًا، وأشدّهم بهم رأفة ورحمى، وزكَّاه روحاً وجسمًا، وحاشاه عيباً ووصمًا، وآتاه حكمة وحُكٍماََ، وفتح به أعيناً عمياَ و قلوباً غلفًا، وآذاناً صمًا، فآمن به وعزره ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه وسلم صلاة تنّمو وتَنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا.
وبعد:
فإن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي أرسله الله تعالى ليُغيّر مَجرى التاريخ؛ وليُعيد البشرية إلى رشدها، بعد أن كانت غارقة في وثنيات فاجرة، وعادات جاهلية ظالمة، وانحرافات خُلُقية مُقيتة، وعبودية مُذلّة للشيطان وجنده.
فجاء محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل وانطماس من السُبل، ليُخرج الناس من الظلماتِ إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويُبصرّهم من بعد عمىً وضلال؛ ليُخرجهم من عِبادة العِباد إلى عِبادة ربِّ العِباد، ومن ضيق الدنيا إلى سِعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدلِ الإسلام.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
وما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلّا لِرحمة الناس وإنقاذهم من الهلاك، وتَمهيد سبيل السعادة لهم، ودعوتهم للحياة الحقيقية في ظلِّ توحيد الله ونبذ كل عبودية لغيره، فدعوته صلى الله عليه وسلم سبب الرحمة للبشرية جمعاء.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء:107].
ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي حياة القلوب والأبدان، وهي سببٌ السعادة في الحياة الدنيا للإنسِ والجان، وسببُ النعيم الأبديّ والرضا السرمديّ حيث الحياة الحقّة في الجِنان.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم شديدَ الحرص على الناس، باذلاً نفسه في سبيل هدايتهم، حاملاً لهم في قلبه تمام الرحمة وكامل الرأفة.
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
حتى إنه صلى الله عليه وسلم من شدّة رحمته ورأفته بالناس كاد يموت أسفاً وحزناً وشفقة على أعدائه من الكفار لعدم إيمانهم بهذه الرسالة، حتى قال الله تعالى له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].
وما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلا ليُكمِل دعوة الأنبياء والمرسلين إلى مكارم الأخلاق، فجاء داعياً لكل خُلقٍ حميدٍ صالح، ناهياً عن كل الخصالِ الفاسدة والأخلاق الذميمَة، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بُعثتُ لأُتمِمَ صَالح الأخلاق» [أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده صحيح، قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وصحّح العجلوني سَنده في كشف الخفا، وصحّحه الألباني في صحيح الجامع].
وكما جمع محمد صلى الله عليه وسلم كل خصال الكمال في دعوته، فقد جمعها أيضاً في أقواله وأفعاله، فبلغَ درجة من الكمال الخُلُقيّ لم يَبلغها إنسانٌ قَبله ولن يَبلغها إنسانٌ بعده، وكفاه في ذلك تزكيةِ ربِّ العالمين له بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ولذلك لم يكن عجيباً أن يجعل الله التأسّي بمحمد صلى الله عليه وسلم عبادة يتقرب بها إلى الله وينال بها رضوانه، وأن يجعل الاقتداء به سبيلاً للجنَّة، وطريقاً للنجاة يوم القيامة.
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
بل جعل الله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم علامة على حُبّ الله، وأَمارةً على صدقِ هذه المحبة، وسبباً لمحبة الله للعباد ومغفرتِه ذنوبهم، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
إن الله قد اختار محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون النبيّ الخاتم الذي لا نبيَ بعده، فلا سبيل للنجاة إلا بالإيمان به واتباع هديه، فكل السُبل مُغلقة إلا سبيله، وكل الأبواب مُوصَدةً إلا بابه.
قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40].
واختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليُوحِي إليه أعظم الكتب السماوية وهو القرآن العظيم الذي جاء مهيمناً على كل الكتبِ السماوية قَبله.
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48].
كما اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليحمل أشرف رسالة، وأكمل شريعة، وأعظم دينٍ وهو دين الإسلام، النِّعمة التامّة الكاملة التي منّ الله بها على الخلق كافة.
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
واختص الله محمداً صلى الله عليه وسلم بخير الأصحابِ وأفضلِ الأتباع الذين كانوا خير دليلٍ على حُسن تعليمِه، وبينة عمليّة على كمال تربيته، وشاهداً تاريخيّاً على أثره العظيم في تحويل جيلٍ كاملٍ من جاهليةٍ جهلاءَ ومَعيشةٍ ظلماءَ وعقائد عوجاء وارتكاسات حمقاء، إلى عقيدة التوحيد والنَّقاء وشريعة العِفّة والصفاء، إلى كمالٍ بَشري وسُمّوٍ أخلاقي قد بلغ عَنان السماء.
قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
واصطفى الله أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم ليكونوا شهداء على الناس، ثم اصطفاه الله تعالى ليكون شاهداً على هذه الأُمّة.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وقال سبحانه وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
واصطفى الله أُمّةَ محمد صلى الله عليه وسلم كذلك ليكونوا خير أُمّةٍ أُخرِجت للناس بتنفيذهم للتعاليم التي جاء بها نبيُ الرحمة صلى الله عليه وسلم من أمرٍ بمعروف ونهيٍ عن المنكر.
قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران:110].
واصطفى الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة، وليكون أول شافع وأول مُشفّع، فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر، وأنا أوّل من تنشقُ الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافعٍ وأوّل مُشفّع ولا فخر، ولواءَ الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر» [رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في الصحيحة].
بل إن باب الجنَّة لن يُفتح إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أوّل من سيَقرع باب الجنّة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: "من أنت؟"، فأقول محمد، فيقول: بك أُمِرْت أن لا أفتح لأحد قبلك» [رواه مسلم].
وقال عليه الصلاة والسلام: «أنا أوّل من يَقرع باب الجنّة» [رواه مسلم].
بل إن الله اصطفى أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون أوّل أُمّةٍ تدخل الجنّة، كما قال عليه الصلاة والسلام: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة» [رواه البخاري ومسلم].
إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو سيّد الأنام وأكرم رسل الله الكرام فهو الأرفع مَكانة والأعلى درجة والأسمى رُتبةً بما شرّفه الله به من فضائل وخصال، ومَكارم وخِلال، لم تَجتمع لغيره، ولن تكون لأحدٍ دونه.
إنه الرحمة المُهداة والنِّعمة المُسداة، وإمام الهدى ومِصباح الدُّجى والسِراج المُنير والرحمة للعالمين.
إنه سحابٌ لا يضرًّه نِباح المُرجفين، وقِمةٌ لا تَنالها سِهام المُشكّكين، وطَودٌ شامخ لا تَهزّه افتراءات الكافرين وأكاذيب أعداءِ الدِّين.
فيا معشر المسلمين..
ارفعوا رؤوسكم فأنتم أتباع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، واسجدوا لله شكراً فأنتم إخوانُ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وأبشروا يا من تُحبُّون محمداً صلى الله عليه وسلم بِصُحبتِه في جَنات النِّعيم على سُررٍ مُتقابلين.
أما أتباع الشياطين، أولئك الذين يَرفعون عقيرتهم راغبين في انتقاصِ خير البريّة وخاتم المرسلين، مُتطاولين على سيّدهم وسيّد خَلق الله أجمعين، فأقول لهم:
هذا محمد... فمن أنتم؟
منقول