إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، أما بعد:
أحبتي الكرام: إن المتأمل في تاريخ الإنسانية كلها، وفي سِيَر العظماء والعباقرة، والمفكرين والقادة؛ الذين يسَّر الله على أيدي بعضهم تغيير مجرى التاريخ، والتأثير الهائل في عقول وأفكار هذه الإنسانية؛ يجد أن هؤلاء العظماء كانوا في هذه الدنيا كَزِر الكهرباء يُضغط عليه ضغطة فتضيء الدنيا، وتشرق القلوب، وتستبشر الأكوان، وهذا ما حصل من رُسل الله - عليهم الصلاة والسلام -
كالبــدر من حيث التفت رأيته يهدي إلى عينيك نوراً ثاقباً
كالشمس في كبد السماء وضوؤها يغشى البلاد مشارقاً ومغارباً
كالبحــر يقذف للقريب جواهراً جوداً ويبعث للبعيد سحائب1
وضغطة أخرى على ذلك الزر فتُظلِم الدنيا، وتسْودُّ القلوب، ويعمُّ الظلم، وتُقمع الفضائل، وترتع المنكرات والرذائل؛ وهذا ما حصل من مشركي العالم وبغاته، ومجرمي الدنيا وطغاتها؛ الذين دوخوا الدنيا بفسادهم، وأضلوا العالم بأفكارهم
بالذل والأسر والتشريد إنهم على البرية حتف حيثما نزلو2
كفرعون وقارون وهتلر3 وأتاتورك4وعفلق5، وفي حاضرنا بوش وشارون وباراك وغيرهم ممن كانوا نُقَطاً سوداء في صحيفة التاريخ.
ثم يتساءل المرء: ما هذا الفارق الكبير بين هؤلاء وأولئك؟
والجواب بسهولة: أن أولئك رباهم المولى - جل وعلا - فأحسن تربيتهم كما قال - تعالى - عن موسى - عليه السلام -: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}6، وكما قال - عز وجل - عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}7، أما هؤلاء فلم يربهم غير الطاغية الكبير إبليس الرجيم، فلم يهذبهم دين، ولم يردعهم عقل، بل تؤزهم الشياطين إلى الشر أزّاً، وتوحي إليهم بالطغيان وحياً: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}8، هكذا ضلَّ وأضلَ هؤلاء، وكذلك أشرق أولئك.
إذن أحبتي الكرام: لم يخرج الجميع للتاريخ، وينبغوا ويؤثروا في هذا العالم؛ إلا بمؤثر خارجي؛ لأن الله - تعالى - يقول: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}9، فهم خرجوا جميعاً من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، وانظر قوله - جل وعلا - هنا: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} يعني فتَعلَّموا - وهذا هو المؤثر - حتى عَلِموا شيئاً في هذه الدنيا، ثم تأثروا بذلك العلم، ثم أثروا به على من حولهم من البشرية، لكن ماذا تعلموا؟ وكيف أثَّروا؟
لقد تعلم هؤلاء الضالين المضلين الكفرَ والإلحاد، والزيغَ والفساد {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}10، ويكفي مثالاً لكل هؤلاء ما كان يكرره أتاتورك دائماً فيقول: "وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان في البحر"11، أما أولئك الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومن بعدهم من الصالحين فهم مع فطرتهم لا يميلون عنها، فقد أراهم الله شرعَه، وعلَّمهم دينَه بعد أن علم الله منهم الإخلاص والصدق في طلب الحق وقبوله {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}12، فزادهم الله توفيقاً ورشاداً، وذيوعاً ولموعاً، فذهبوا يضيئون للبشرية من ذلك الضياء الذي رزقهم ربهم، فيُؤثِّرون ويُعلِّمون ويُرشدون، لكن تشهد السماوات السبع والأرضون السبع أنها لم ترَ من البشرية معلماً ناجحاً، ومربياً متفوقاً كمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد لذلك التاريخ والواقع، فانظر إلى القادة الأفذاذ: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - وأرضاهم؛ عند من تعلموا؟ ومن أين تخرج البطل المغوار خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، وعند من تربت سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها -؟ ومن أين تخرجت فقيهة الإسلام عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وزوج الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها -؟ لقد تربوا جميعاً على يديه - صلى الله عليه وسلم - فكيف رباهم؟ وكيف علمهم؟ وكيف أثر في نفوس أصحابه، بل حتى في نفوس أعدائه حتى قال أحدهم قبل إسلامه - وهو عبد الله بن سلام -: "لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل13 الناس قِبَله، وقيل: قد قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ثلاثاً)، فجئتُ في الناس لأنظر فلما تبيَّنتُ وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب"14، يا الله حتى لغة الوجه وتعبيراته تشهد له - صلى الله عليه وسلم - فسبحان من علمه وأيده!!.
فهلموا بنا نعيش هذه اللحظات في بستان تعليمه - صلى الله عليه وسلم - كيف كان يعلم، وكيف كان يؤثر، وكيف كان يربي؛ ليرقى المعلمون والمربون جميعاً بمستواهم، فيرتفعوا بهذا الجيل إلى ذرى قمم البذل والتقدم، ويجعلوهم مؤثرين لا متأثرين بهذه الحضارة، وقادة لا مقودين، حتى يقول فيهم التاريخ:
هم القومُ إن قالوا أصابُوا وإن دُعوا أجابُوا وإنْ أَعطوا أَطابوا وأَجْــزلوا
وما يَستطيع الفاعلون فِعــالَهـم وإنْ أَحسنوا في النائبــات وأَجملو15
يقول معاوية بن الحكم السلمي: ((فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني))16، فما أحوج المعلِّمين إلى التعلم من آدابه وأخلاقه، وحسن تعليمه، وأساليبه.