الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيلاً، وأودعها العالم العلوي السفلي لإخراج كماله من القوة إلى الفعل إيجاداً وإمداداً وقبولاً، وأثار بها الهمم السامية والعزمات العالية إلى أشرف غاياتها تخصيصا لها وتأهيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مقر بربوبيته، شاهد بوحدانيته، منقاد إليه لمحبته، مذعن له بطاعته، معترف بنعمته،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
منزلة المحبة:
فإن المحبة كما قال ابن القيم -رحمه الله-: المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عملها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب.1
بعض الأدلة على أن المحبة من صفات الله:
هذه بعض الأدلة لبيان إثبات محبة الله وأنها صفة من صفاته:
قول الله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (31) سورة آل عمران.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه).2
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض).3
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ).4
يا مدعي حبه لا تخالف أمره:
كثيرون هم الذين يدّعون حب الله ورسوله ، والكلام في هذا سهل على اللسان ولكن السؤال المفروض هل كل من ادعى ذلك صادق؟!.
لا شك –أيها الإخوة- أن الذي يدعي محبة الله لا بد من صفات تظهر عليه، ولا بد لأفعاله أن تصدق أقواله؛ لأن الذي يسير في المعاصي والمحرمات ولا يدع طريقا للشر إلا ويسلكه، ثم يدعي بعد ذلك محبة الله تعالى هذا كاذب لا محالة ، إذ يتنافى ادعاء محبة الله مع ارتكاب المعاصي ولا يلتقيان أبداً، ورحم الله من قال:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن أحب مطيع
ولذلك الذين يدعون محبة الله مع ترك شرعه طالبهم سبحانه بقوله في سورة آل عمران: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (31) سورة آل عمران.
قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله، فقالوا: يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله:
فإلى من أراد أن يرقى من منزلة المحب لله، إلى منزلة المحبوب من الله، أقدم لك هذه الأسباب العشرة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم "مدارج السالكين" مع شرح مختصر لها.
السبب الأول: قراءة القرآن بتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، كتدبير الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه، نعم فمن أحب أن يكلمه الله تعالى فليقرأ كتاب الله، قال الحسن بن على: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار.
ولهذا فإن رجلاً من أصحاب النبي استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة وتدبرها ومحبتها، هي سورة الإخلاص التي فيها صفة الرحمن جل وعلا فظل يرددها في صلاته، فلما سُئل عن ذلك قال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي : (أخبروه أن الله يحبه).5
السبب الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها موصلة إلى درجة المحبوب بعد المحبة.
قال رسول الله في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه وتعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشىء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).6
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: أولياء الله المقربون قسمان: -ذكر الأول-، ثم قال: الثاني: من تقرب إلى الله تعالى بعد أداء الفرائض بالنوافل، وهم أهل درجة السابقين المقربين؛ لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، وترك دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال تعالى في الحديث القدسي: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والحظوة عنده.
السبب الثالث: دوام ذكره على كل حال، باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر، قال رسول الله : (إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)7 وقال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } البقرة:152
السبب الرابع: إيثار محابه تعالى على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
يقول ابن القيم في شرح هذه العبارة: إيثار رضى الله على رضى غيره، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطول والبدن.
وقال رحمه الله: إيثار رضى الله عز وجل على غيره، وهو يريد أن يفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق، وهي درجة الإيثار، وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولى العزم منهم، وأعلاها لنبينا محمد.8
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله وينهي النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على أتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها، كان نهيه عبادة لله، وعملاً صالحاً".9
السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وأفعاله، أحبه لا محالة.
قال ابن القيم رحمه الله: لا يوصف بالمعرفة إلا من كان عالماً بالله وبالطريق الموصل إلى الله، وبآفاتها وقواطعها، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة، فالعارف هو من عرف الله بأسمائه وصفاته و أفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصده ونيته. 10
السبب السادس: مشاهدة بره وإحسانه، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته، فالعبد أسير الإحسان فالإنعام والبر واللطف، معاني تسترق مشاعره، وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة ويهدي إليه المعروف. ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله، هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح، فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه، وانتدب لنصرته وقمع أعدائه، وأعانه على جميع أغراضه، وإذا عرف الإنسان حق المعرفة، علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌٌ} (34) سورة إبراهيم.
السبب السابع: وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته، بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن المعنى غير الأسماء والعبارات، و الانكسار بمعنى الخشوع، وهو الذل والسكون.
قال تعالى: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (108) سورة طـه.
قال ابن القيم: الحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار.
وقد كان للسلف في الخشوع بين يدي الله أحوال عجيبة، تدل على ما كانت عليه قلوبهم من الصفاء والنقاء.
السبب الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (16) سورة السجدة.
إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة؛ لأن قيامهم في الليل بين يدي اللّه تعالى يجمعُ لهم جلّ أسباب المحبة التي سبق ذكرها.
ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقول له: (وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس)11.
يقول الحسن البصري رحمه اللّه: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل، فقيل له: ما بال المجتهدين من أحسن الناس وجوهاً، فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
السبب التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
قال رسول الله : قال الله عز وجل: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ).12
فمحبة المسلم لأخيه المسلم في الله، ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق وهي سياج واق، ويحفظ الله به قلب العبد، ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف.
السبب العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه، ولن يجد نفعاً أو كسباً في أخراه. قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (88-89) سورة الشعراء.13
أسأل الله الكريم، بوجهه العظيم، وسلطانه القديم أن يجعلنا من أهل محبته، وممن يحبهم ويحبونه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 مدارج السالكين (3/6).
2 رواه البخاري(6940).
3 رواه البخاري (3037).
4 روه الإمام أحمد (22117) صححه الألباني: انظر حديث رقم : 4321 في صحيح الجامع.
5 رواه البخاري(6940).
6 رواه البخاري (6137).
7 رواه ابن ماجه (3792) صححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
8 مدارج السالكين (2/299).
9 مجموع الفتاوى (10/635).
10 مدارج السالكين (3/337).
11 رواه الحاكم في المستدرك (7921) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (73).
12 روه الإمام أحمد (22117) صححه الألباني: انظر حديث رقم : 4321 في صحيح الجامع.